تمكين الأحباء وتداعياته

يُعدّ تمكين الأحباء من أسمى صور الدعم الإنساني التي تنبع من مشاعر الحب والحرص والرغبة في مساعدتهم على تجاوز المصاعب وتحقيق النجاح. لكن، ورغم نُبل هذه النوايا، فإن لهذا التمكين وجهاً آخر قد يكون مؤذياً وخطيراً إذا لم يُمارس بحكمة ووعي. فحين يتحوّل الدعم غير المشروط إلى أداة تلغي استقلالية الفرد وتُضعف قدرته على اتخاذ القرار، يُصبح التمكين فعلاً ضاراً بدل أن يكون محرّكاً للتقدم والنمو.

هذا المقال يُناقش بعمق متى يصبح تمكين الأحباء ضاراً لهم، من خلال تحليل نفسي واجتماعي وسلوكي، مدعوماً بالأمثلة والنماذج الواقعية، مع تقديم رؤى توعوية تُمكّن القارئ من التفريق بين الدعم الصحي والدعم المفرط المؤذي.

التمكين: المفهوم وحدوده

التمكين في جوهره يعني منح شخصٍ ما الأدوات أو الفرص أو الصلاحيات التي تساعده على النمو وتحقيق أهدافه. يتجلّى هذا في تقديم الدعم المالي، أو العاطفي، أو الأكاديمي، أو حتى الاجتماعي. لكن التمكين لا يعني بالضرورة تسهيل كل شيء، ولا يعني إزالة جميع العقبات من أمام الأحباء، بل يعني إكسابهم القدرة على التعامل مع التحديات بأنفسهم.

عندما نتجاوز هذا المفهوم ونحوّله إلى شكل من أشكال التواكل والاعتمادية، نبدأ دون وعي في إلحاق الأذى بمن نحب، لأننا نمنعهم من تطوير مهارات الصمود، واتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية.

تمكين أم تدليل؟ الفارق المفصلي

غالبًا ما يختلط مفهوم التمكين بمفهوم التدليل، خاصة في العلاقات الأبوية أو العاطفية. فالأب الذي يرفض أن يعمل ابنه أو يشارك في المهام المنزلية، بحجة أنه يريد أن يوفّر له حياة مريحة، لا يُمكّنه بل يحرمه من أدوات النضج والاستقلال. والشريكة التي تُغدق على حبيبها كل أنواع الدعم العاطفي والمالي دون مساءلة، قد تجد نفسها في نهاية المطاف تدعم سلوكاً اتكالياً وضعيفاً.

متى يتحول التمكين إلى أذى؟

التمكين يصبح مؤذياً عندما تتوفر الشروط التالية:

1. غياب المسؤولية الفردية: حين لا يُطلب من الشخص الذي يتلقى الدعم أن يتحمّل أي مسؤولية مقابل ما يُمنح له، فإن ذلك يُعزز سلوك الاعتماد ويُضعف قدراته الذاتية.

2. تحجيم التطور الشخصي: عندما تُحلّ جميع المشكلات نيابة عن الأحباء، لا يُتاح لهم الفرصة لتعلم كيفية حلّها بأنفسهم.

3. تشويه الصورة الذاتية: الاستمرار في تقديم المساعدة دون تمكين حقيقي يُضعف الثقة بالنفس لدى الطرف الآخر، ويجعلهم يشعرون بعدم الكفاءة.

4. الإبقاء على السلوكيات السلبية: أحياناً يُمكّن الأهل أو الأحبة أشخاصاً يكررون أنماطاً من السلوكيات السامة أو الفاشلة بدلاً من مواجهتهم ومحاسبتهم.

آثار التمكين المؤذي على الأحباء

1. الاتكالية وفقدان الاستقلالية

تصبح الاتكالية نمطاً متكرراً في سلوك الأحباء حين يشعرون بأنهم دائماً ما سيحصلون على الدعم مهما كانت قراراتهم أو تصرفاتهم. وبدلاً من تطوير قدرتهم على اتخاذ القرارات، ينتظرون أن يُتخذ القرار نيابةً عنهم.

2. التراجع المهني والاجتماعي

التمكين الخاطئ يؤدي إلى عدم السعي لتحقيق الذات أو التطور المهني. فالابن الذي يحصل على المال دون عمل، لن يقدّر قيمته ولن يسعى لتكوين مسار مهني مستقر.

3. تدهور العلاقات الإنسانية

الدعم الزائد يخلق علاقات غير متكافئة، حيث يشعر أحد الأطراف بالثقل من تحمّل المسؤولية الكاملة، فيما يشعر الطرف الآخر بالعجز أو التبعية، ما يخلق توترات تؤدي أحياناً إلى القطيعة.

4. صراعات داخلية وتوتر نفسي

حتى الأحباء الذين يتلقون الدعم قد يعانون داخلياً من الشعور بالذنب أو الخجل لعدم قدرتهم على الاستقلال. وقد ينمو فيهم شعور بالدونية يُضعف تقديرهم لذاتهم.

الفرق بين التمكين الصحي والتمكين المؤذي (جدول توضيحي)

أمثلة واقعية من الحياة اليومية

1. الابن الذي لا يُطلب منه العمل أو الدراسة
   
   عندما يتخرّج الابن ولا يُطالب بأي إنجاز، ويتلقى المصروف باستمرار دون شروط، يفقد الدافع للبحث عن وظيفة ويُفضل الراحة على تحمل المسؤولية.

2. العلاقة العاطفية التي تُبنى على الإنقاذ الدائم
   
   شريك دائم الوقوع في المشاكل المالية أو العاطفية، وشريكه الآخر يتولى “إنقاذه” كل مرة. هذا النمط يؤدي إلى استنزاف الشريك المنقذ، ويُكرّس سلوك الاعتماد لدى الطرف الآخر.

3. الطالب الذي تُحل واجباته دائماً من قِبل أهله
   
   بحجة “الحرص على مستقبله”، يُحرَم الطفل من فرصة التعلم الحقيقي، ويواجه صعوبات لاحقة في التفكير المستقل واتخاذ القرارات الدراسية.

الأسباب النفسية وراء التمكين المفرط

غالباً ما لا يدرك الممكِّنون أنهم يُلحقون الضرر بمن يحبون. هناك دوافع نفسية كثيرة تقف خلف هذا السلوك، منها:

• الشعور بالذنب: بعض الآباء أو الأحباء يشعرون بالذنب بسبب أخطاء ماضية، فيُفرطون في العطاء كنوع من التعويض.

• الرغبة في السيطرة: تقديم الدعم الدائم يُعزز لدى البعض شعوراً بالتحكم في حياة الآخر.

• الخوف من الاستقلال: بعض الأشخاص يربطون الحب بالتواجد الدائم، ويخشون من أن يؤدي الاستقلال إلى الابتعاد.

• نقص الوعي التربوي أو العاطفي: في كثير من الأحيان، يُمارَس التمكين المؤذي عن جهل، وليس عن قصد.

كيف نُمكّن أحبائنا بطريقة صحيحة؟

التمكين الصحي يقوم على التوازن بين الدعم والتحدي، بين الحب والمساءلة. لتجنّب الأذى يجب اتباع المبادئ التالية:

1. تقديم الدعم مع حدود واضحة
   
   يجب أن يكون الدعم مشروطاً بالجهد، أي أن يُطلب من الشخص المقابل أن يُشارك في تحقيق أهدافه.

2. تشجيع الاستقلال في اتخاذ القرار
   
   دع الأحباء يقرّرون بأنفسهم حتى وإن أخطأوا. الخطأ أداة تعلم فعّالة.

3. الاحتفاء بالإنجاز الذاتي لا بالتبعية
   
   لا تمدح التبعية بل امدح المبادرة والاستقلال والجهد الذاتي.

4. تخصيص الدعم حسب المراحل العمرية
   
   تمكين الطفل يختلف عن تمكين المراهق أو الراشد. يجب أن يتطوّر شكل التمكين حسب المرحلة النمائية.

5. التوقف عن الإنقاذ المستمر
   
   يجب مقاومة الرغبة في “إنقاذ” الأحباء دائماً. أحياناً، تركهم يواجهون عواقب أفعالهم هو أفضل دعم ممكن.

خلاصة

الحب لا يعني التدخل المستمر، والدعم لا يعني الحماية المطلقة. إنّ التمكين الحقيقي يُبنى على الثقة في قدرات الأحباء، واحترام استقلالهم، ومساعدتهم على النضج لا على الاعتماد. تمكين الأحباء ينبغي أن يكون أداة تحرير، لا قيداً جديداً يخنقهم باسم الحب. لذا، فإنّ التفكير الواعي في طريقة دعمنا للآخرين أمر جوهري لضمان ألا يتحوّل فعل الخير إلى أداة إيذاء غير مقصود.

المراجع:

• Deci, E.L., & Ryan, R.M. (2000). The “What” and “Why” of Goal Pursuits: Human Needs and the Self-Determination of Behavior. Psychological Inquiry.

• Kohn, A. (1993). Punished by Rewards. Houghton Mifflin.

• Neufeld, G., & Maté, G. (2004). Hold On to Your Kids: Why Parents Need to Matter More Than Peers. Ballantine Books.

• Gabor Maté (2010). In the Realm of Hungry Ghosts: Close Encounters with Addiction. Vintage Canada.